ثقافة الشاعر الكبير الـمـنصـف الـمـزغـنـي يتحـدث عـن الكلمة والشعب والسيــاسـة وعــن الحياة والـمــوت و«الـوصية»
ليـست هنــاك صلة بين النهضة والعمل السياسي الحــقـيـقــيّ
نواب الشعب يترجمــون جمالنا وقبحنا في الآن ذاته
ماوصلنا إليه اليوم هو ما نستحقه
علاقة الشاعر بالسياســـة وطيدة
الشاعر بمثابة مستودع لوجدان شعب كامل
هو الذي أعدم في كلماته الفقر والغبـن وأهدى الشاعر أقلاما ذهبية ومحابر فضية ودفاتر وردية، تنبض قصائده بمعان رمزية اخترقت بسهامها كل المعهود والمألوف.
إنّه المبدع خارج السياق «المنصف المزغني» الشاعر الذي كان لمجلة أخبار الجمهورية لقاء معه للحديث عن الكلمة الشعرية والشعب التونسي والسياسيين وعن أبي الطيب المتنبي الذي اغرورقت عيناه عند ذكر اسمه...
ـ في البداية، بماذا تصفون الكلمة الشعرية؟
الكلمة الشعرية كالشعار فيها اختصار وفيها ذهاب مباشر إلى المعنى المقصود، وهي أيضا الكلمة الناجحة التي يتداولها الناس لوصولها إليهم ببساطة وإيجاز كالمثل الشعبي والشعار كما ذكرت.
تلك الكلمة تبقى نادرة عند الشعراء وحتى عند الشعوب وهنا أضرب مثل البيت الشعري المقتطف من قصيدة طويلة لأبي القاسم الشابي، ولكنه ذهب عبرة وتغنت به تونس كما شعوب أخرى وهو «إذا الشعب يوما أراد الحياة». إذن فالكلمة الشعرية هي الكلمة الصادقة التي تنفذ إلى صدور الناس وتذهب إليهم دونما استئذان فتسكن مخيلتهم وتلبس ذاكرتهم.
- وهل تعتبر أنّ الشعر كلام إنساني أم إيحاء رباني؟
الشعر هو مثلما سبقت قوله اختزال واختصار واعتصار لأشياء يقولها النثر في صفحات، أما الشعر فيقولها في كلمة فهو مبني على الاختصار لا على الإطالة.
- وهل تعتبر أنّ الشاعر اليوم أصبح مهرّجا أم نبيّا؟
ليس بمهرج وليس بنبي لأن من يقول تلك الكلمة التي أراد ـ ربما ـ أن ينطقها شعب كامل، فهو بمثابة مستودع لوجدان شعب فتراه يصدح بكلمته التي تلقى القبول والترحاب بقوتّها في إيجازها عكس الذين يهتمون بالكلام المطول. حتما إنّ الشعر تكثيف واختصار بمعاني وليس هذيانا وكلاما مسترسلا بلا معنى.
- في زمن التكنولوجيا والانترنت، هل ثمّة مكان للشعر والقصيدة؟
مازال في زمن التكنولوجيا والانترنت والفايسبوك الكثير من الشعر، ولعل اكبر دليل على ذلك هو سرقات الكلمات الشعرية وتداولها بكثرة على الصفحات الاجتماعية بموقع الفايسبوك تبعا لنجاحها، لكن للأسف يتم السطو عليها غالبا دونما ذكر كاتبها وصاحبها في زمن ضاعت فيه حقوق المؤلف الأول الذي لم يسجل ما جادت به قريحته في مدونة رسمية أو في تلفزيون أو وثيقة خاصة به.
- وفي تونس، هل من مكان فعلي للشعر؟
ليس هناك في تونس مكان فعلي للشعر فنحن بتنا نرى أن فنونا كثيرة جاءت لتسرق جمهور الشعر الذي توزع بين السينما والمسرح والتلفزيون، فتقلص بذلك وأضحى عدده قليلا إلا فيما نَدَرَ. بل أحيانا نجد أنّ المواكبين للأمسيات الشعرية هم الشعراء أنفسهم أو الممثلون لعائلاتهم أو أصدقاؤهم، وهذا ما يترجم أزمة يعيشها الشعر ليس في تونس فحسب بل في العالم العربي بأسره أو الأوروبي الذي شاركت في مهرجاناته.
- ومن السبب في هذه الأزمة؟
ربما يصنعها الشاعر نفسه بإيغاله أحيانا في الغموض فيجعل الجمهور هاربا مما يلقيه، فعندما لا يحاول الشاعر الاقتراب من جمهوره عبر كلمات تمس كيانه فإنه حتما سيخسره.
ونلاحظ هنا أن شعراءً نجوما كانوا يستقطبون جمهورا كبيرا في العالم العربي كنزار قباني ومحمود درويش وعبد الرحمان الأبنودي ومظفر النواب، وحتى في العالم البعيد عنا نجد أن الشاعرين الروسيين فلاديمير ماياكوفسكي ويفغيني افتوشنكو كان لهما جمهور موسع، لكن اليوم يظل الشاعر الجماهيري محسودا حتّى من قبل زملائه.
من ناحية أخرى تحمّل مسؤولية النفور من الشعر إلى وسائل الإعلام التي أصبحت مقصرة جدا في حق الشاعر لندرة تمرير كلماته مقابل تمرير الأغاني فأضحى بذلك الجمهور الشعري يُصنع صناعة.
- وهل يعيش الشعراء الشعبيون هم أيضا هذه الأزمة؟
الشعراء الشعبيون ليست لهم مشاكل ففي الأعراس مثلا يأتون ويحبهم الناس، وما وصل إليه الشاعر الشعبي في تونس وفي الخليج لم يصل إليه الشعراء الذين يكتبون الفصحى. إنّ الشاعر الذي يكتب بالعامية لا مشاكل تواصلية له مع الجمهور، أما الشاعر الحديث فلديه مشاكل تخص مسألة عدم فهم عامة الناس الغموض الذي يلبس كلماته.
- حسب رأيك، ما الفرق بين الشاعر والسياسي في تونس؟
هذا يشتغل باللغة وذاك يشتغل بالمجتمع، والشاعر هو الذي يشتغل باللغة لكنّه مواطن يرغب في قول رأيه السياسي بطريقة شعرية، أمّا السياسي فله برنامجه الحزبي المشبع باختياراته الخاصة عكس الشاعر الذي يفتح باب الاختيارات للجمهور فإذا ما تحوّل إلى بوق للسياسي فانه يخسر الشعر ويخسر السياسة.
- وما العلاقة بينهما؟
العلاقة بينهما وطيدة لأن السياسي يعتبر الشاعر أداة توصيل وأداة دعاية حيث كان الشعراء الجاهليون وحتى الذين جاؤوا بعدهم، كانوا أبواقا للقبيلة أو للسلاطين أو الملوك وكل انخراط لنهج الانتماء الإيديولوجي أو الحزبي يساهم في تضييق جمهور الشاعر.
- عندما يشاهد المنصف المزغني المهازل والانفلاتات الكلامية التي تحدث تحت قبة مجلس النواب، ماذا يمكن له أن يقول؟
هؤلاء النواب ـ وبعضهم محترم ـ هم خلاصة هذا الخليط الحزبي والفسيفساء السياسي الذي وصلنا إليه، حيث أنّ هناك أشخاص جاؤوا إلى السياسة بالصدفة وآخرون ليس لهم همّ حقيقي لا سياسي ولا اجتماعي ولا اقتصادي . وما نشاهده من مستوى متدن في ردهات مجلس النواب هو ترجمة لما أفرزته الصناديق الانتخابية وألاعيبها، وحتى الديمقراطية نفسها هي لعبة لا بدّ منها.
حتما إنّ ما وصلنا إليه اليوم هو ما نستحقه فنوابنا أوّلا ليسوا منصّبين علينا، ولكنهم يترجمون جمالنا وبشاعتنا وقبحنا وبهاءنا في الوقت ذاته.
- وهل تعتبر أن الثورة التونسية جاءت رحمة أم نقمة للتونسيين؟
كان لابد من التغيير، لصعود طبقة جديدة بعد وصول بعض الأنظمة إلى شيخوختها، لكن صعود هذه الطبقة جاء في إطار برنامج دولي لتغيير الطبقة السياسية والتعامل مع أطراف جدد.
- وما رأيك إذن في صعود حركة النهضة؟
لا ننسى أنّ صعود المد الإخواني بدأ مقموعا وانتهى غشيما سياسيا، وأعتبر أنه ليست هناك صلة بين النهضة والعمل السياسي الصميم حقيقة. في المقابل ما أشعر به هو أن هذه الحركة قد تخلت كثيرا عن وجهها الأول وعن مساحيقها.
- أتخلت أم تنكرت كما يذهب إلى ذلك البعض؟
لا هي فقط حلمت بالسلطة، لكن أن تحلم بالسلطة شيء وان تمسك بزمام حكم شعب مثل الشعب التونسي فتلك مسألة أخرى، فهذا الشعب معروف منذ أيام عقبة بن نافع بأنه مسلم إذن ما الداعي إلى تذكيرنا بالإسلام!
إنّ المسألة اليوم في تونس ليست مقترنة بالتوجه الإيديولوجي بل في أهمية طرح برنامج سياسي واقتصاد ناجح تتم بلورته في مجتمع عايش 60 سنة من الاستقلال ومازال يعاني من التخلف. هذا ما يجب علينا أن ننتبه إليه معا لا بوجهة نظر إسلامية ولا ماركسية بل بوجهة نظر واقعية.
- وماذا عن اليسار؟
لا اعتقد أيضا أن لليسار برنامجا واضحا في بلادنا فكل الأحزاب باتت دون برامج، وأرجو أن نصل إلى وضع نكون فيه بعيدين كل البعد عن التوجهات الإيديولوجية مهما اختلفت.
- وماهو رأيك كشاعر ومبدع في السياسيين بصفة عامة؟
السياسيون هم ثلاث طبقات الطبقة القديمة وهي التي اشتغلت مع الزعيم الحبيب بورقيبة ثم الطبقة التي حاولت العمل معه أو مع بن علي وبقيت في الظل والطبقة الثالثة هي التي تحلم بأن تشتغل في السياسة. وفي كل هذه الطبقات نجد أطرافا وطنية ووفية كما نجد الانتهازيين واللصوص والمتسللين الذين يريدون دخول عالم السياسة من أجل تغطية جرائم اقتصادية أو غيرها.
- بعيدا عن عالم السياسة، ما الفرق بين الإلهام في الشعر والإلهام في الدين؟
الإلهام في الدين انتهى مع النبي محمد عليه السلام وهو واضح وجليّ في كلامه حين قال «لا نبيّ بعدي»، فالأنبياء أدوا رسائلهم ومحمد كان نبيا ورجل دولة تراه يشتغل بالدين وبالسياسة في الوقت نفسه وله غزوات واقتصاد وله دولة بمعنى الدولة في ذلك الوقت. أمّا اليوم فأعتقد أن الدين للجميع من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومن شاء فليتديّن بأي دين يريد، أما ما ينفع معاش الناس وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية فهذا شأن للجميع ولا يمكن للدين أن يفتي فيه ولا يمكن لأية إيديولوجية أخرى أن تقول رأيها فيه.
- وما الفرق بين المنصف المزغني وبين أبي الطيب المتنبي؟
كل الشعراء في كفة وأبو الطيب المتنبي في كفة أخرى، فهو متى قرأت له في أي بيت إلا ووجدته معاصرا وكأنه يعيش معنا. أبو الطيب المتنبي هو ذاك الشاعر الذي شرح شعره أبو العلاء المعري وسمى شرحه «معجز أحمد»، ولكأنه به يشير إلى شيء معجز وما من معجز إلا القرآن.
فالمعري اعتبر أن المتنبي هو صانع معجزة لغوية في الشعر لذلك كل شعراء اللغة العربية في كفة والمتنبي في كفة أخرى سواء الذين ولدوا والذين لم يولدوا بعد.
في شعره موسيقى لا ندري كيف أتى بها وللأسف مات مقتولا، لكن شعره ظل حيا على مدى الزمان وهو الذي قال «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم» فالمتنبي شاعر لم يولد مثله.
- ما وزن الكلمة اليوم؟
ثمّة الكثير من التشويش على الكلمة في هذا العالم الذي أضحى كله صور وأضواء، ولكن تبقى الكلمة قادرة على الحياة ونحن مازلنا نحفظ كلمات قيلت منذ عهود قديمة ومن شعراء كبار مثل المتنبي ومثل شكسبير استمرّت وصمدت رغم طول الزمن ولم يطلها القدم.
- الشاعر أولاد أحمد أضحى اليوم من سكان السماوات، فماهي الكلمات التي تقولها له؟
كتبت له قصيدة بعد موته، فأولاد أحمد كان طائرا شعريا جميلا ـ عليه رحمة الله ـ وأثره الآن موجود كله ولكنه لم يدرّس ونرجو في هذا الإطار أن تهتم به الجامعة التونسية وهي المولعة دائما بالأموات.
- ماهي القصيدة التي ترغب بأن يقرأها الباجي قائد السبسي؟
«سيدي الباجي» كما يحلو لي مناداته، هو من طبقة المحامين القدامى وهو يعرف الشعر الجيد ويذهب إليه بنفسه دونما نصيحة.
- وما رأيك في راشد الغنوشي؟
اعتقد أن الغنوشي رجل تغير نحو الاعتدال، وإذا جاز لي أن احلم به فإني أتمنى رؤيته في بعض الحفلات الموسيقية.
- ما جديدك بعد ديوان مشاعر؟
أنا احضر لكتابة قصص للأطفال كما اتهيأ لكتابة قصائد قصيرة لا بد أن تمضي إلى قارئها مباشرة دونما إطالة، ربما ليس هذا العام لكن العام الذي يليه.
- ولو أخبرتنا عن علاقتك بالحياة؟
علاقة حب لكن من طرف واحد، ودائما هكذا مهما طال بنا العمر نستمر في حب الحياة لكن حب الإنسان لها يظل من طرف واحد.
- وبالموت؟
لا أفكر في الموت لأنه هو من يفكر فيّ، وأنا أتحيل عليه بالأدوية والعلاج.
- هل من وصيّة حياتية تبعثها إلى الشعراء؟
الشعراء مهما طال عمرهم فإنه قصير والشعر وإذا جاز لنا أن نسمي الشعر بإنسان فسيكون عبارة عن إنسان لا يشبع من جهود كل الشعراء والشاعرات، فهو يتطلب نوعا من الإخلاص للغة والانتباه إلى الجمال اللغوي الموجود فينا وفي حياتنا.
حاورته: منارة تليجاني